الأخطـل الكـبير
تو. 718م
هو غيّاث بن غوث التّغلبي، لقبه الأخطل وكنيته أبو مالك. شاعرٌ أمويٌّ، ولِد في الحيرة أيّام عشرين للهجرة، من أبٍ تغلبي فقير. اتّجه منذ صباه إلى شعر الهجاء، ولهذا اتّصل به يزيد حين أقدم شاعرٌ من الأنصار على هجائه وهجاء والده والتّشبيب بأُخته والتّحدث عن غرامياتٍ معها، وطلب إليه أن يهجوَ الأنصار. فتهيّب الأخطل ثم قَبِلَ لعدّة أسبابٍ، أهمّها إنّه أموي الهَوى وطالب شهرةٍ وطالب مال. وهكذا انفتح باب المجد أمامه، فأطلق لسانه في هجاء الأنصار ونعتهم بأنهم يهود، وبأنهم فلاّحون، يشربون الخمر، وضرَبَ على وترٍ حسّاسٍ فجعلهم دون قريش مكانةً وشرفًا، وأثار ما كان بين القحطانية والعدنانية من عداء، وجعل اللّؤم تحت عمائم الأنصار، وأَمَضّهُم في نصيحته حين ثناهم عن طلب المجد لأنهم ليسوا من أهله، ووصمهم بالجُبن في القتال:
ذهبت قريش بالمكارم والعلا واللؤم تحت عمائم الأنصـارِ
فذَروا المعالي لَسْتُم من أهلها وخذوا مساحيكم بني النـجارِ
وكانت هذه المناسبة سبيله إلى الإتّصال ببني أميّة وخاصّة بعبد الملك بن مروان، حتى أصبح شاعرهم الناطق بإسمهم، والمروّج لسياستهم. والمُدافع عنهم، وكان يُمثّل قبيلته تغلب في الوقت نفسه، فيتغنّى بأمجادها، ويهجو أعداءها القيسيّة، ويشدّ النّزاع القَبَليّ بين تغلب وقبائل قيس إلى عجلة السياسة الأموية؛ وممّا سهّل عليه ذلك كون بني تغلب حلفاء للأمويين، بينما القيسية أعداء الخلافة. إلتحم الهجاء بين الأخطل وجرير حتى مات أبو مالك (الأخطل) في خلافة الوليد بن عبد الملك سنة 92 هـ. وسبب هذا الهجاء أن الأخطل انحاز إلى الفرزدق ففضّل شعره على جرير، وكان من نتيجة ذلك نشوء فنّ شعريّ جديدٍ عُرِفَ بالنّقائض، مع هؤلاء الشّعراء الثلاثة المعروفين بـ "المُثلّث الأُمويّ" والذين شغلوا الناس بنقائضهم على مدى عقودٍ طويلة.
أما شعر الأخطل، فقد تناول معظم الأغراض الشعرية المعروفة من مدحٍ وهجاءٍ ووصفٍ وفخرٍ. غير أن شهرته قامت على المديح الذي اقتصر على بني أميّة حيث نال عندهم حظوةً واحتلّ في بلاط خليفتهم عبد الملك بن مروان مكان الصّدارة، بالرّغم أنه كان نصرانيًا، فلُقِّبَ بـ "شاعر بني أمية" و"شاعر أمير المؤمنين". وأروع قصائده المدحيّة، "رائيته" في الخليفة عبد الملك. ومنها قوله:
شمسُ العداوةِ حتى يُستقاد لهم وأعظمُ الناسِ أحلاماً إذا قدروا
وفيها هذه الحكمة الموفّقة:
إنّ الضغينة تلْقاها وإن قَدُمَت كالعُرِّ يكمنُ حيناً ثم ينتشِرُ
وإلى جانب منزلته الرفيعة في المديح، فقد برع الأخطل في وصف الخمرة التي كان يُعاقرها، مُظهرًا أثرها في عقول شاربيها.
قال أبو الفرج الأصفهاني في "الأغاني": ((هو غياث بن غوث بن الصلت بن الطارقة، ويقال ابن سيحان بن عمرو بن الفدوكس بن عمرو بن مالك بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمر بن غنم بن تغلب. ويكنى أبا مالك. وقال المدائني: هو غياث بن غوث بن سلمة بن طارقة، قال: ويقال لسلمة سلمة اللحام. قال: وبعث النعمان بن المنذر بأربعة أرماح لفرسان العرب، فأخذ أبو براء عامر بن مالك رمحاً، وسلمة بن طارقة اللحام رمحاً وهو جد الأخطل، وأنس بن مدرك رمحاً، وعمرو بن معد يكرب رمحا.
والأخطل لقبٌ غلب عليه. ذكر هارون بن الزيات عن ابن النطاح عن أبي عبيدة أن السبب فيه أنه هجا رجلاً من قومه، فقال له: يا غلام، إنك لأخطل، فغلبت عليه. وذكر يعقوب بن السكيت أن عتبة بن الزعل بن عبد الله بن عمر بن عمرو بن حبيب بن الهجرس بن تيم بن سعد بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب حمل حمالةً، فأتى قومه يسأل فيها، فجعل الأخطل يتكلم وهو يومئذ غلام. فقال عتبة: من هذا الغلام الأخطل؟! فلقب به.
قال يعقوب وقال غير أبي عبيدة: إن كعب بن جعيل كان شاعر تغلب، وكان لا يأتي منهم قوماً إلا أكرموه وضربوا له قبة، حتى إنه كان تمد له حبالٌ بين وتدين فتملأ له غنما. فأتى في مالك بن جشم ففعلوا ذلك به، فجاء الأخطل وهو غلام فأخرج الغنم وطردها، فسبه عتبة ورد الغنم إلى مواضعها، فعاد وأخرجها وكعبٌ ينظر إليه، فقال: إن غلامكم هذا لأخطل - والأخطل: السفيه - فغلب عليه. ولج الهجاء بينهما، فقال الأخطل فيه:
سميت كعباً بشر العـظـام
وكان أبوك يسمى الجعـل
وإن مـحـلـك مـن وائلٍ
محل القراد من است الجمل
فقال كعب: قد كنت أقول لا يقهرني إلا رجل له ذكرٌ ونبأ، ولقد أعددت هذين البيين لأن أهجى بهما منذ كذا وكذا، فغلب عليهما هذا الغلام.
وقال هارون بن الزيات حدثني قبيصة بن معاوية المهلبي قال حدثني عيسى بن إسماعيل قال حدثني القحذمي قال: وقع بين ابني جعيل وأمهما ذرءٌ من كلام، فأدخلوا الأخطل بينهم، فقال الأخطل:
لعمرك إنني وابني جعيلٍ
وأمهما لإستـارٌ لـئيم
فقال ابن جعيل: يا غلام، إن هذا لخطلٌ من رأيك، ولولا أن أمي سمية أمك لتركت أمك يحدو بها الركبان، فسمي الأخطل يذلك. وكان اسم أمهما وأمم الأخطل ليلى. وقال هارون حدثني إسماعيل بن مجمع عن ابن الكلبي عن قومٍ من تغلب في قصة كعب بن جعيل والأخطل بمثل ما ذكره يعقوب عن غير أبي عبيدة ممن لم يسمه، وقال فيها: وكان الأخطل يومئذ يقرزم - والقرزمة: الابتداء بقول الشعر - فقال له أبوه: أبقرزمتك تريد أن تقاوم ابن جعيل! وضربه. قال: وجاء ابن جعيل على تفئة ذلك فقال: من صاحب الكلام؟ فقال أبوه: لا تحفل به فإنه غلام أخطل. فقال له كعب:
شاهد هذا الوجه غب الحمة
فقال الأخطل:
فناك كعب بن جعيلٍ أمة
فقال كعب: ما اسم أمك؟ قال: ليلى. قال: أردت أن تعيذها باسم أمي. قال: لا أعاذها الله إذاً. وكان اسم أم الأخطل ليلى، وهي امرأة من إياد، فيسمي الأخطل يومئذ، وقال:
هجا الناس ليلى أم كعبٍ فمزقت
فلم يبق إلا نفنفٌ أنـارافـعة
وقال فيه أيضاً:
هجاني المنتنان ابنا جعـيلٍ
وأي الناس يقتله الهجـاء
ولدتم بعد إخوتكم من استٍ
فهلا جئتم من حيث جاؤوا
فانصرف كعب، ولج الهجاء بينهما.
وكان نصرانياً من أهل الجزيرة. ومحله في الشعر أكبر من أن يحتاج إلى وصف. وهو وجرير والفرزدق طبقةٌ واحدة، فجعلها ابن سلام أول طبقات الإسلام. ولم يقع إجماع على أحدهم أنه أفضل، ولكل واحدٍ منهم طبقةٌ تفضله عن الجماعة.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن أبي عبيدة قال: جاء رجلٌ إلى يونس فقال له: من أشعر الثلاثة؟ قال: الأخطل. قلنا: من الثلاثة؟ قال: أي ثلاثة ذكروا فهو أشعرهم. قلنا: عمن تروي هذا؟ قال: عن عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق الحضرمي وأبي عمرو بن العلاء وعنبسة الفيل وميمون الأقرن الذين ماشوا الكلام وطرقوه. أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز قال قال أبو عبيدة عن يونس، فذكر مثله وزاد فيه: لا كأصحابك هؤلاء لا بدويون ولا نحويون. فقلت للرجل: سله وبأي شيء فضلوه؟ قال: بأنه كان أكثرهم عدد طوالٍ جيادٍ ليس فيها سقطٌ ولا فحش وأشدهم تهذيباً للشعر. فقال أبو وهب الدقاق: أما إن حماد وجناداً كانا لا يفضلانه. فقال: وما حماد وجناد! لا نحويان ولا بدويان ولا يبصران الكسور ولا يفصحان، وأنا أحدثك عن أبناء تسعين أو كثر أدوا إلى أمثالهم ماشوا الكلام وطرقوه حتى وضعوا أبنيته فلم تشذ عنهم زنة كلمة، وألحقوا السليم بالسليم والمضاعف بالمضاعف والمعتل بالمعتل والأجوف بالأجوف وبنات الياء بالياء وبنات الواو بالواو، فلم تخف عليهم كلمةٌ عربية، وما علم حمادٍ وجناد!.
قال هارون حدثني القاسم بن يوسف عن الأصمعي: أن الأخطل كان يقول تسعين بيتاً ثم يختار منها ثلاثين فيطيرها.
أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال أخبرنا محمد بن سلام قال سمعت سلمة بن عياش وذكر أهل المجلس جريراً والفرزدق والأخطل ففضله سلمة عليهما. قال: وكان إذا ذكر الأخطل يقول: ومن مثل الأخطل وله في كل بيت، شعرٍ بيتان! ثم ينشد قوله:
ولقد علمت إذا العشار تروحت
هدج الرئال تكبهن شـمـالا
أنا نعجل بالعبيط لضـيفـنـا
قبل العيال ونضرب الأبطالا
ثم يقول ولو قال:
ولقد علمت إذا العشـا
ر تروحت هدج الرئال
كان شعراً، وإذا زدت فيه تكبهن شمالاً، كان أيضاً شعراً من رويٍّ آخر.
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال: كعب بن جعيل لقبه الأخطل، سمعه ينشد هجاءً فقال: يا غلام إنك لأخطل اللسان، فلزمته.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري فال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية قال حدثنا بعض أصحابنا عن رجل من بني سعد قال: كنت مع نوح بن جرير في ظل شجرة، فقلت له: قبحك الله وقبح أباك! أما أبوك فأفنى عمره في مديح عبد ثقيف يعني الحجاج. وأما أنت فامتدحت قثم بن العباس فلم تهتد لمناقبه ومناقب آبائه حتى امتدحته بقصرٍ بناه. فقال: والله لئن سؤتني في هذا الموضع لقد سؤت فيه أبي: بينا أنا آكل معه يوماً وفي فيه لقمةٌ وفي يده أخرى، فقلت: يا أبت، أنت أشعر أم الأخطل؟ فجرض باللقمة التي في فيه ورمى بالتي في يده وقال: يا بني، لقد سررتني وسؤتني. فأما سرورك إياي فلتعهدك لي مثل هذا وسؤالك عنه. وأما ما سؤتني به فلذكرك رجلاً قد مات. يا بني أدركت الأخطل وله نابٌ واحد، ولو أدركته وله ناب آخر لأكلني به، ولكني أعانتني عليه خصلتان: كبر سن، وخبث دين.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد وقال: سئل حماد الراوية عن الأخطل، فقال: ما تسألوني عن رجلٍ قد حبب شعره إلى النصرانية! قال إسحاق وحدثني أبو عبيدة قال قال أبو عمرو: لو أدرك الأخطل يوماً واحداً من الجاهلية ما قدمت عليه أحداً.
قال إسحاق وحدثني الأصمعي أن أبا عمرو أنشد بيت شعر، فاستجاده وقال: لو كان للأخطل ما زاد.
وذكر يعقوب بن السكيت عن الأصمعي عن أبي عمرو: أن جريراً سئل أي الثلاثة أشعر؟ فقال: أما الفرزدق فتكلف مني ما لا يطيق. وأما الأخطل فأشدنا اجتراءً وأرمانا للفرائض. وأما أنا فمدينة الشعر.
وقال ابن النطاح حدثني الأصمعي قال: إنما أدرك جريرٌ الأخطل وهو شيخٌ قد تحطم. وكان الأخطل أسنٌ من جرير، وكان جرير يقول: أدركته وله نابٌ واحد، ولو أدركت له نابين لأكلني. قال: وكان أبو عمرو يقول: لو أدرك الأخطل يوماً واحداً من الجاهلية ما فضلت عليه أحداً.
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: قال العلاء بن جرير: إذا لم يجيء الأخطل سابقاً فهو سكيتٌ، والفرزدق لا يجيء سابقاً ولا سكيتاً، وجرير يجيى سابقاً ومصلياً وسكيتاً.
وقال يعقوب بن السكيت قال الأصمعي: قيل لجرير: ما تقول في الأخطل؟ قال: كان أشدنا اجتراء بالقليل وأنعتنا للحمر والخمر.
وروى إسماعيل عن عبيد الله عن مؤرج عن شعبة عن سماك بن حرب: أن الفرزدق دخل الكوفة، فلقيه ضوء بن اللجلاج، فقال له: من أمدح أهل الإسلام؟ فقال له: وما تريد إلى ذلك؟ قال: تمارينا فيه. قال: الأخطل أمدح العرب.
وقال هارون بن الزيات حدثني هارون بن مسلم عن حفص بن عمر قال: سمعت شيخاً كان يجلس إلى يونس كان يكنى أبا حفص، فحدثه أنه سأل جريراً عن الأخطل فقال: أمدح الناس لكريمٍ وأوصفه للخمر. قال: وكان أبو عبيدة يقول: شعراء الإسلام الأخطل ثم جرير ثم الفرزدق. قال أبو عبيدة: وكان أبو عمرو يشبه الأخطل بالنابغة لصحة شعره.
وقال ابن النطاح حدثني عبد الله بن رؤبة بن العجاج قال: كان أبو عمرو يفضل الأخطل.
وقال ابن النطاح حدثني عبد الرحمن بن برزج قال: كان حماد يفضل الأخطل على جرير والفرزدق. فقال له الفرزدق: إنما تفضله لأنه فاسق مثلك. فقال: لو فضلته بالفسق لفضلتك.
قال ابن النطاح قال لي إسحاق بن مرار الشيباني: الأخطل عندنا أشعر الثلاثة. فقلت: يقال إنه أمدحهم! فقال: لا والله! ولكن أهجاهم. من منهما يحسن أن يقول:
ونحن رفعنا عن سلول رماحنـا
وعمداً رغبنا عن دماء بني نصر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى عن أحمد بن الحارث عن المدائني قال: قال الأخطل: أشعر الناس قبيلةً بنو قيس بن ثعلبة، وأشعر الناس بيتاً آل أبي سلمى وأشعر الناس رجل في قميصي.
أخبرني الحسن قال حدثني محمد قال حدثني الخراز عن المدائني عن علي بن حماد - هكذا قال، وأظنه علي بن مجاهد - قال: قال الأخطل لعبد الملك: يا أمير المؤمنين، زعم ابن المراغة أنه يبلغ مدحتك في ثلاثة أيام وقد أقمت في مدحتك:
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
سنةً فما بلغت كل ما أردت. فقال عبد الملك: فأسمعناها يا أخطل، فأنشده إياها، فجعلت أرى عبد الملك يتطاول لها، ثم قال: ويحك يا أخطل! أتريد أن أكتب إلى الآفاق أنك أشعر العرب؟ قال: أكتفي بقول أمير المؤمنين. وأمر له بجفنةٍ كانت بين يديه فملئت دراهم وألقى عليه خلعاً، وخرج به مولى لعبد الملك على الناس يقول: هذا شاعر أمير المؤمنين، هذا أشعر العرب. وقال ابن الزيات حدثني جعفر بن محمد بن عيينة بن المنهال عن هشام عن عوانة قال: أنشد عبد الملك قول كثير فيه:
فما تركوها عنوةً عن مودةٍ
ولكن بحد المشرفي استقالها
فأعجب به. فقال له الأخطل: ما قلت لك والله يا أمير المؤمنين أحسن منه. قال: وما قلت؟ قال قلت:
أهلوا من الشهر الحرام فأصبحوا
موالي ملكٍ لا طريفٍ ولا غصب
جعلته لك حقاً وجعلك أخذته غصباً، قال: صدقت.
قال أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال أخبرنا عمر بن شبة قال أخبرنا أبو دقاقة الشامي مولى قريش عن شيخ من قريش قال: رأيت الأخطل خارجاً من عند عبد الملك، فلما انحدر دنوت منه فقلت: يا أبا مالك، من أشعر العرب؟ قال: هذان الكلبان المتعاقران من بني تميم. فقلت: فأين أنت منهما؟ قال: أنا واللات أشعر منهما. قال: فحلف باللات هزؤاً واستخفافاً بدينه.
وروى هذا الخبر أبو أيوب المديني عن المدائني عن عاصم بن شنل الجرمي أنه سأل الأخطل عن هذا، فذكر نحوه، وقال: واللات والعزى.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال ذكر الحرمازي: أن رجلاً من بني شيبان جاء إلى الأخطل فقال له: يا أبا مالك، إنا، وإن كنا بحيث تعلم من افتراق العشيرة واتصال الحرب والعداوة، تجمعنا ربيعة، وإن لك عندي نصحاً. فقال: هاته، فما كذبت. فقلت: إنك قد هجوت جريراً ودخلت بينه وبين الفرزدق وأنت غنيٌّ عن ذلك ولا سيما أنه يبسط لسانه بما ينقبض عنه لسانك ويسب ربيعة سباً لا تقدر على سب مضر بمثله والملك فيهم والنبوة قبله، فلو شئت أمسكت عن مشارته ومهارته. فقال: صدقت في نصحك وعرفت مرادك، وصلتك رحمٌ! فو الصليب والقربان لأتخلصن إلى كليب خاصةً دون مضر بما يلبسهم خزيه ويشملهم عاره. ثم اعلم أن العالم بالشعر لا يبالي وحق الصليب إذا مر به البيت المعاير السائر الجيد، أمسلمٌ قاله أم نصراني.
أخبرني وكيع قال حدثني أبو أيوب المديني عن أبي الحسن المدائني قال: أصبح عبد الملك يوماً في غداةٍ باردة، فتمثل قول الأخطل:
إذا اصطبح الفتى منها ثلاثاً
بغير الماء حاول أن يطولا
مشى قرشيةً لا شك فـيهـا
وأرخى من مآزره الفضولا
ثم قال: كأني أنظر إليه الساعة مجلل الإزار مستقبل الشمس في حانوت من حوانيت دمشق، ثم بعث رجلاً يطلبه فوجده كما ذكره.
وقال هارون بن الزيات حدثني طائع عن الأصمعي قال: أنشد أبو حية النميري يوماً أبا عمرو:
يا لمعدٍّ ويا للناس كلـهـم
ويا لغائبهم يوماً ومن شهدا
كأنه معجبٌ بهذا البيت، فجعل أبو عمرو يقول له: إنك لتعجب بنفسك كأنك الأخطل.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الغلابي عن عبد الرحمن التيمي عن هشام بن سليمان المخزومي: أن الأخطل قدم على عبد الملك، فنزل على ابن سرحون كاتبه. فقال عبد الملك: على من نزلت؟ قال: على فلان. قال: قاتلك الله! ما أعلمك بصالح المنازل! فما تريد أن ينزلك؟ قال: درمكٌ من درمككم هذا ولحمٌ وخمر من بيت رأس. فضحك عبد الملك ثم قال له: ويلك! وعلى أي شيء اقتتلنا إلا على هذا!. ثم قال: ألا تسلم فنفرض لك في الفيء ونعطيك عشرة آلاف؟ قال: فكيف بالخمر؟ فال: وما تصنع بها وإن أولها لمر وإن آخرها لسكر! فقال: أما إذ قلت ذلك فإن فيما بين هاتين لمنزلةً ما ملكك فيها إلا كعلقة ماء من الفرات بالإصبع. فضحك ثم قال: ألا تزور الحجاج! فإنه كتب يستزيرك. فقال: أطائعٌ أم كاره؟ قال: بل طائع. قال: ما كنت لأختار نواله على نوالك ولا قربه على قربك، إنني إذاً لكما فال الشاعر:
كمبتاعٍ ليركبه حـمـاراً
تخيره من الفرس الكبير
فأمر له بعشرة آلاف درهم وأمره بمدح الحجاج؟ فمدحه بقوله:
صرمت حبالك زينبٌ ورعوم
وبدا المجمجم منهماالمكتوم
ووجه بالقصيدة مع ابنه إليه وليست من جيد شعره.
وقال هارون بن الزيات حدثني محمد بن إسماعيل عن أبي غسان قال: ذكروا الفرزدق وجريراً في حلقة المدائني، فقلت لصباح بن خاقان: أنشدك بيتين للأخطل وتجيء لجرير والفرزدق بمثلهما؟ قال: هات، فأنشدته:
ألم يأتها أن الأراقـم فـلـقـت
جماجم قيسٍ بين راذان والحضر
جماجم قومٍ لم يعافـوا ظـلامةً
ولم يعرفوا أين الوفاء من الغدر
قال: فسكت.